الأخبار |
|
الرئيسية تقارير إخبارية |
استيقظت روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي على خريطة جغرافية جديدة تقف فيها على حدود القوقاز لتستعيد المخاوف الاستراتيجية من تمدد النفوذ التركي التاريخي، وعلاقته بالأصولية الإسلامية المناهضة، و ظهرت هذه المخاوف جليا في المشكلة الشيشانية، كما ولد فقدانها دول آسيا الوسطى شعور بالحرمان من موارد الطاقة والثروات المعدنية الغنية في هذه المنطقة، وخاصة في بحر قزوين الغنى بالنفط والغاز، بعد أن كان ملكًا كاملًا للاتحاد السوفيتي باستثناء الجزء الجنوبي منه المطل على إيران، والأن تتوزع ثرواته بين روسيا وبعض دول القوقاز والجمهوريات السوفيتية السابقة.
أما استقلال أوكرانيا وبيلا روسيا ودول البلطيق فيعنى انتهاء الرواية الروسية التي كثيرا ما أعلنت عن نفسها كحاملة شعلة الشعوب السلافية الشرقية وقت أن كانت في روسيا وعاصمتها “كييف” في القرون الوسطى والمسماة بروسيا الكييفية ومن المنظور الجيوبوليتيي لروسيا، فانفصال أوكرانيا يعنى حرمان موسكو من السيطرة على البحر الأسود وخسارة الروس لاقتصاد زراعي وصناعي غني وضخم بالإضافة إلى 52 مليون مواطن من السلافيين يرتبطون اثنيًا ودينيًا بروسيا شكلوا معًا قوة للأمبراطورية الروسية ذات يومًا وبالتالي فأي محاولة من قبل موسكو للسيطرة على الأوراسيا من دون أوكرانيا سيجعلها تدخل وحيدة في صراعات مع غير السلافيين المستثاريين بالنزعات القومية والدينية على حدودها الجنوبية .
كما أن أكثر من 20 مليون شخص يتحدثون اللغة الروسية اصبحوا مواطنين في بلاد أجنبية محكومة من قبل حكومات قومية، هذا بخلاف تغيُر نظرة العالم الخارجي لها من قوى عظمة إلى قوة إقليمية من دول العالم الثالث، ومطامع الولايات المتحدة في حث روسيا- يلتسين على الدوران في فلك الديمقراطية الغربية في محاولة لتسكين الدب الروسي الجريح داخل الخيمة الأوربية مثلما أنحاز أتاتورك لأوروبا بعد انهيار الدولة العثمانية. وفق نظرية النظام العالمي الليبرالي الجديد وأدبيات الليبراليون الجدد الذين خدعوا العالم بنظام ينبذ الحروب عبر التجارة الحرة بين الدول الديمقراطية ذات القيم المشتركة القادرة على تسوية نزاعاتها وصياغة سياستها داخل أُطر مؤسسية تتمسك بالقيم الأخلاقية.
أما روسيا التي أخذت في الانكماش الذاتي وسط شيوع الشعور بالضياع والإذلال بين الفئات السياسية والعسكرية والفكرية فقد استعر السجال بينهم في في الأعوام الأولى من عصر بوريس يلتسين الذى شهدت مؤسساته حالة من الارتباك والتخبط في صناعة القرار الاستراتيجي للسياسة الخارجية بشأن هوية روسيا ما بعد السوفيتية.
من هي روسيا؟!
من هي روسيا جيوبوليتيكيًا في العالم الجديد؟ ما قوة روسيا الشاملة بعد أن كانت تتسيد فضاًء أيدلوجيًا وقوة نووية عظمى تقرر مصائر قضايا عالمية؟ وأين صارت حدودها بعدما كانت تتحكم في المنطقة المركزية لفضاء هالفورد ماكندر الأوراسي؟ وما مقومات هويتها وأهدافها واتجاهاتها السياسية وهي تنحدر عسكريًا حتى مع احتفاظها بالترسانة النووية؟
هل تستطيع روسيا استرداد عافيتها اقتصاديًا بعد خسارة 30% من الناتج المحلي وتراجع مستويات الانتاج ونقص الموارد الأولية وتصاعد مستويات التضخم إلى 2200% وفقدان الروبل 60% من قيمته أمام الدولار مع تحمل أرث الديون العالمية للاتحاد السوفيتي وتوقف الصناعات العسكرية وصفقات تصدير السلاح وهروب المجندين من الخدمة العسكرية بعد تعذر دفع رواتبهم وتبعثر المراكز الصناعية في الجمهوريات المستقلة حديثًا وتفاقم النزاع على ملكيتها وهبوط مستوى المعيشة وارتفاع نسبة البطالة وعدم الاستقرار الاجتماعي مع نشوب صراعات سياسية وظهور مراكز قوى جديدة واصحاب مصالح اقتصادية استحوذوا على الحصة الأكبر من الملكية العامة في صناعة الطاقة والصناعات الأساسية والإعلام؟
اشتدت عود التيار الليبرالي الغربي داخل أروقة صناعة القرار الروسي بقيادة وزير الخارجية أندريه كوزيريف واصبح مسيطر على تلابيب الأمور وأبرم الرئيس يلتسين مع نظيره الأمريكي بوش الأب ميثاق الشراكة والصداقة الأمريكية الروسية عام 1992 أثناء زيارته للولايات المتحدة وقد حصلت بموجبها موسكو على معونات اقتصادية ومالية، اعقبها زيارة للرئيس الأمريكي إلى موسكو في العام التالي تمخض عنها تخفيض الترسانة النووية الاستراتيجية وتفكيك الأسلحة في أوكرانيا وكازاخستان ثم التقى يلتسين بالرئيس الأمريكي بيل كلنتون 18 مرة بين أعوام 1992:1996 انبثق عنها 100 اتفاقية للتعاون الأمني والاقتصادي.
إلا إن تمدد حلف الأطلسي في الحديقة الخلفية لروسيا آثار حفيظة التيار القومي في الدوما بعد أن اصبح هناك تيارين متناقضين فكريًا احدهما وهم الأطلسيون والديمقراطيون أصحاب الهوية الروسية الغربية في ظل النظام العالمي الجديد، وقد خضع لهم يلتسين. في مواجهة تيار القوميون الأوراسيون والشيوعيون الذين تمكنوا من إزاحة كوزيريف بنهاية المطاف لصالح يفغيني بريماكوف المنتمي للمدرسة الأوراسية الشرقية عام 1996 والميال لتطبيع العلاقات مع الصين وإيران وهو ما دفع يلتسين الذي أقتنع بكذب الرواية الأمريكية إلى زيارة بكين في نفس العام ليعود الدفء في العلاقات الروسية الصينية بعد أن تيقنت موسكو إن الدوران في الفلك الأمريكي لا يرتكز على كون الدولتان قوى عظمى استراتيجيًا كما توهم يلتسين، بل كانت تدور بالتبعية حول مركزية الولايات المتحدة، وأدرك الجميع بما فيهم يلتسين إن الدفاع عن أمن روسيا ومصالحها القومية يتحقق بالعودة للايدلوجية السوفيتية والعزم على دور ناشط في السياستين الإقليمية والدولية وخاصة في منطقة الوطن العربي باعتبارها كانت مسرح الأحداث الكامن بعد حرب الخليج الثانية، يُمكن الروس من لعب دور مناهض لواشنطن يعود بهم كقوة مؤثرة في صناعة القرار الدولي.
تعاون نووي
سعت موسكو للتعاون النووي مع كوريا الشمالية وإيران كردة فعل على الحرب الأمريكية على يوغوسلافيا هذا التغيير الذى أغضب واشنطن ورأت ان روسيا تشكل تهديد كبير للغرب ولحلفائها الأوربيين وردت عليها موسكو بإيقاف العمل باتفاق “جور- تشيرنوميردن” المقضي بعدم إقامة علاقات تعاون عسكري أو تصدير سلاح لدول تعتبرها الولايات المتحدة معادية لها وبذلك نجح وزير الخارجية الروسي بريماكوف في تمهيد الأرض للرئيس فلاديمير بوتين الذى وصل إلى سُدة الحكم في مارس من عام 2000 بعد ان صاغ سياسة خارجية لموسكو بعيدة عن التوجه الأطلسي، تتسق مع رؤية بوتين في البحث عن نسق جديد في العلاقات الأمريكية الروسية ضمن نظام دولي متعدد الأقطاب مع رفضه للتوسع الأطلسي وخطط واشنطن لبرنامج الدرع الصاروخي النووي في أوربا. وهو ما أفصح عنه أول اجتماع لمجموعة البريكس عام 1999 حول عالم ثنائي القطبية .
تولى بوتين الرئاسة في ظروف تواجه فيه روسيا أزمات اقتصادية وسياسية حادة وتدهور شديد في الوضع الأمني الداخلي مع تنامى ظاهرة الإرهاب وارتفاع معدلات الفقر وفقدان المواطنون الروس ثقتهم في الرئيس بوريس يلتسين الذى كان قد عين فلاديمير بوتين رئيسا للوزراء في العام 1999 كخامس رئيس حكومة خلال 18 شهرا.
وقد دافع يلتسين عن اختياره لبوتين بقوله: ” اليوم قررت أن أشير إلى شخص أعتبره قادرا على توحيد المجتمع وضمان مواصلة الإصلاحات في روسيا مع الاعتماد على قوى سياسية واسعة. كما أنه يستطيع أن يجمع حوله أولئك الذين سيمثلون روسيا العظمى في القرن الحادي والعشرين”.
تزامن تولي بوتين رئاسة الوزراء مع الحرب الشيشانية الثانية ردا على غزو داغستان من قبل اللواء الإسلامي الدولي الذي يتخذ من الشيشان مقرا له وانهت الحرب استقلال الشيشان إحدى الجمهوريات الروسية الواقعة في شمال شرق منطقة القوقاز وتمكن بوتين من محو أثار الهزيمة المزلة في الحرب الشيشانية الأولى ( 1994:1996) والتي كبدت القوات الروسية خسائر فادحة أدت إلى استقلال الجمهورية تحت أسم جمهورية الشيشان – إيشكيريا فعليًا وليس رسميًا.
شعبية بوتين
ارتفعت شعبية بوتين بعد الحرب الشيشانية الثانية واسترداد الجمهورية المتمردة مما ساهم في فوزه بالانتخابات الرئاسية في العام التالي وقد تعاطى بوتين بمفهوم عسكري واقتصادي مع خطر انفصال جمهوريات شمال القوقاز تحت حكم سلطاتها المركزية التي كانت على شفى الانهيار في ظل انهيار اقتصادي وتنامي عمليات الإرهاب تحت قيادة دوكوعمروف الرئيس السابق لجمهورية الشيشان- إيشكيريا الذى أعلن قيام أمارة القوقاز الإسلامية عام 2007 وحدودها جميع الجمهوريات الواقعة في شمال القوقاز على الأراضي الروسية. إذ تمكن بوتين من الحفاظ على وحدة الأراضي الروسية ليس بالقوى العسكرية فحسب بل والمساهمة في عمليات الإعمار واستعادة الاستقرار والنمو الاقتصادي بهذه المناطق مما قلل كثيرًا من العمليات الإرهابية .
مع وصول بوتين للحكم قاد حملة شرسة ضد الأوليغارشيين السبعة الأكبر والذين استحوذوا على 50% من اقتصاد روسيا، وهو ما دفع ببيروزوفسكي أحد هؤلاء الأوليغارشيين وأهم ممولي حملة بوتين الرئاسية للإنقلاب عليه وتمويل المقاومة الشيشانية. وتمكن بوتين خلال فترة حكمه الأولى من القضاء على الأوليغارشيين وارتفع الناتج المحلي ثلاثة مرات مع ارتفاع مستويات المعيشة بشكل مرضي.
ورغم ان فترة بوتين الأولي شهدت تقارب أمريكي – روسي لدرجة السماح للطائرات الأمريكية استخدام القواعد العسكرية الروسية في وسط آسيا إبان الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 مع تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدولتين في محاولة روسية لكسب ود الأمريكان ولو مؤقتًا.
إلا أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 شكل منعطف تدهورت فيه العلاقة بين البلدين، وصلت حدتها بإشعال الثورة الملونة في أوكرانيا عام 2004 والذى اعتبرته موسكو تهديد مباشر ليس للحدود الروسية فحسب بل للداخل الروسي أيضا.
ولذا جاء الرد الروسي موجع بوقف إمدادات الغاز إلى أوربا والتي تمر عبر الأراضي الأوكرانية ومنع استيراد اللحوم والسلع الغذائية من الولايات المتحدة لتبدأ مرحلة جديدة من الحرب الباردة بين الدولتين انعكست على لغة الخطابة السياسية المعادية بين الطرفين. إذ اتهم ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي موسكو بالابتزاز غير الشرعي، فيما وصف بوتين السياسة الأمريكية بسياسة الرايخ الثالث النازي.
وفي المقابل خاطب بوتين مؤتمر الأمن في ميونخ فبراير 2007 بهذه الكلمات ” تخطت الولايات المتحدة حدودها القومية في كل اتجاه وهذا واضح في سياساتها بمختلف مجالاتها التي تفرضها على الأمم”.
وعندما عزمت واشنطن على نشر درعها الصاروخية في بولندا وجمهورية التشيك هددت موسكو بنشر صواريخها في منطقة كالينيغراد( المنطقة المحيطة بين بولندا ولتوانيا المطلة على بحر البلطيق).
لعبة كراسي موسيقية
في مارس 2008 شهدت موسكو لعبة الكراسي الموسيقية حينما تم انتخاب ديمتري ميدفيدف رئيسُا بتزكية من بوتين على أن يتولى الأخير منصب رئيس الوزراء ليبقى في المشهد الروسي المعقد.
إذ فرضت واشنطن عقوبات على شركات روسية بسبب تعاونها النووي مع إيران وتصاعدت حالة التوتر بين البلدين حينما قررت واشنطن ضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو. وفي أغسطس من عام 2008 وقعت الأزمة الجورجية واستخدمت موسكو القوة العسكرية في رسالة شديدة اللهجة للأمريكان بأن زمن يوغسلافيا حينما كانت روسيا ضعيفة قد ولى بلا رجعة.
بوصول باراك أوباما للبيت الأبيض عام 2009 بدأ وزيري الخارجية سيرغي لافروف وهيلاري كلينتون احتواء القضايا الخلافية بين الدولتين حيث تعهدت واشنطن بالاعتراف بمصالح روسيا واحترامها، وعدم التدخل في جورجيا وأوكرانيا، والتعاون في خفض الأسلحة الاستراتيجية مع مراجعة خيار نشر الدرع الصاروخية والتمهيد لدخول روسيا كعضو في منظمة التجارة العالمية. مقابل تعاون موسكو العسكري مع القوات الأمريكية في أفغانستان وقبول قرار مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية على إيران عام 2010 في مقابل إسقاط العقوبات السابقة على روسيا.
مرة أُخرى لُعبة الكراسي الموسيقية تعود بالرئيس بوتين إلى الكرملين عام 2012، وتُجلس ميدفيدف على كرسي رئيس الوزراء، وعادت روسيا لترى نفسها خليفة الاتحاد السوفيتي بعد ان تمكن بوتين خلال فترتي رئاسته الأولى من تأسيس القدرات الاستراتيجية القومية لروسيا وتحديد معالم حدودها الجيوسياسية في أطار عقيدة سياسية خارجية وأمنية وعسكرية، وبعد أن حقق هذا الرجل الفولاذي نمو اقتصادي هائل واصبحت الطاقة مصدر مناعة الاقتصاد الروسي، وسددت روسيا ما عليها من ديون خارجية وامتلأ البنك المركزي بالاحتياطي الأجنبي، وزاد حجم التجارة الخارجية خمسة الضعف، وارتفع حجم الاستثمار المباشر إلى سبعة الضعف، واصبحت روسيا سابع أكبر اقتصاد في العالم، ووضعت صورة بوتين على غلاف مجلة تايم كرجل العام 2007 وصار معبود الجماهير في روسيا.
حان الوقت في فترتي رئاسة بوتين الثانية السعي لتكوين تحالفات إقليمية ومعاهدات دولية عابرة للقارات. تحالفت مجموعة البريكس مع منظمة شنغهاي للتعاون في تحدي صريح لأحادية العالم تحت سيادة أمريكية، وعادت أمريكا لتمارس لُعبة الثورات الملونة في أوكرانيا عام 2014، أعقبه تدخل عسكري سريع من بوتين في شبة جزيرة القرم، وفي 6 مارس صوت أعضاء المجلس الأعلى لجمهورية القرم ذاتية الحكم على الانفصال رسميًا عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا الاتحادية.
لم يعترف الناتو بالانفصال واعتبره إجراء غير دستوري، وقطع كافة علاقات التعاون مع روسيا وبدأ في حشد آلته العسكرية قرب الحدود مع روسيا في مشاهد استعراضية وعادت العقوبات الاقتصادية في محاولة أمريكية لعزل روسيا اقتصاديًا.
وفي سبتمبر 2014 دق القيصر الجديد المسمار الأخير في نعش الرئيس السابق أوباما حينما دخلت الآلة العسكرية الروسية الحرب في سوريا لتُعلن ميلاد جديد لروسيا بعد السوفيتية على البحر المتوسط في عالم متعدد الأقطاب.
عمرو عمار - كاتب جيوسياسي
المراجع : كتاب روسيا والشرق الأوسط بعد الحرب الباردة - كتاب لوحة الشطرنج العظمى
عدد المشاهدات: 3598 |